على الرصيف في شارع (سوتر) أحد شوارع محافظة الأسكندرية؛ كان يجلس رجل عجوزعديم الأهلية، تكاد تنطق قسمات وجهه – وجسده الذي كان في غاية النحافة- بالمعاناة التي تعرض ومازال يتعرض إليها، أما الكسورالتي يبدوأن تجبيرها تم مؤخراً في عظامه المشوهة تخبر القاصي والداني بأنه تعرض لحادثة مأساوية وأهل الخير -أو قد يكون المتورط في إصابته- هم الذين مدوا إليه يد العون لإعانته على تجبير هذه الكسور.
لفت أنتباهي مثلما لفت أنتباه جميع الزملاء والزميلات الذين يركبون مواصلاتهم في مرواحهم من شارع سوتر الذي يبعد عن مجمع الكليات بعدة أمتار، لم تتباين ردود فعل جميع المتواجدين في المكان، فكانت الحوقلة هي الهمهمة التي تردد من أفواه جميع الواقفين والواقفات، وإن كان البعض لم يكتف بهذه الحوقلة بل قام بوضع ما تبقى من مأكولاته (المسلية) بجانب العجوز. فبالتجمع حوله؛ بدأ البعض يطرح تساؤلات على كل من تظهر فى عيونه نظرة أهتمام بمآل الرجل، فبادر أول بالإجابة أنه ينبغي علينا أن نقوم بإبلاغ الإسعاف، وأشار ثاني في هلع إلى مقربته من الطريق الذي تمر من خلاله السيارات لذا ينبغي علينا أن نقوم بإبعاده عن الأسفلت؛ وذلك لأنه كان على حافة الرصيف، بينما أنا أقترحت أنه ينبغي علينا إبلاغ الشرطة، وهذا الأقتراح نال أستحسان جميع الواقفين دون أن يتحمس أي أحد من المتواجدين لتنفيذه، وهذا ما تجلى بعدما أومأ أحد الواقفين إلى شرطيين كانا واقفين عند إشارة المرور في شارع سوتر قائلاً ليّ: (روح قولهم)، فعندما قولت له: (تعالى معايا)، تغيرت ملامحه وقال ليّ في برود: (روح لوحدك).
أنبلج ذات الرأي على ملامح جميع الشباب والشابات الذين يحيطون بالرجل العجوز من كل أتجاه؛ لذلك أضطررت أن أكبح الجبن والخواطرالسيئة التي كانت تساورني، وذهبت بخطا مترددة إلى هذين الشرطيين؛ فبعدما أخبرتهما بمأساة الرجل العجوز، تجلى الأهتمام عليهم في البداية، وتحدثا معي بمنتهى الود، قبل أن يغض كل منهما طرفه عني ويتضح لي بمما لايدع مجالاً للشك عدم أكتراثهما بما قولته، فعندما ألححت عليهما، أكتفى الضابط الأصغر الذي كان برتبة (رائد) بقوله ليّ بنبرة هادئة: (روح أنت وأن هبلغ الإسعاف)، وأنا في طريقي للعودة إلى الرجل العجوز أتضح ليّ أن جميع أنظار الواقفين والواقفات كانت تترقبني، لذلك عندما عدت إليهم، فمثلما كانوا – جميعاً- متفقين على أنه ينبغي عليّ أن أذهب وحدي، أتفقوا جميعاً على السؤال الموجه ليّ: (قالولك أيه؟!)، فعندما أجبتهم قال أحدهم: (يلا دلوقتي نبعده عن الأسفلت)، نجحنا في حمل الرجل – أنا وشاب آخر- وإبعاده عن الأسفلت، رغم أن أحد الشباب الواقفين رفض أن يحمله معنا ليس لرثاثة مظهره – كما قال ليّ- بل لأنه يخاف أن يحمله بصورة خاطئة فيزيد الطين بلة، وأظن أن هذا – فعلاً- الرادع الذي أحال بينه وبين تقديم المساعدة لاسيما وأن وجهه كان مغمور بالمودة والرحمة.
ففي اللحظة التي ضقنا فيها بالأنتظار بدأت الحقيقة تتضح لجميع مترقبي سيارة الإسعاف بأن الشرطي (والله أعلم) لم يخبر الإسعاف من الأساس، فذهبت مرة أخرى إلى شرطي آخر، أظن أنه كان في مستهل حياته المهنية، فتحدث معي هو الآخر بود، قبل أن ينفجر في وجهي – بعدما جاء معي ليرى هذا الرجل العجوز بنفسه- قائلاً:( واحنا نعمله أيه)، فأثناء ما كانت النظرات المفعمة بالشفقة موجهة إليّ كنت أرد عليه متلعثماً تحت وطأة (الكسفة) قائلاً:( حضرتك مش مفروض فيه دورلرعاية الحالات اللي زي ديه) فأطرق صامتاً، وغادر المكان- على ما أعتقد- مرتاح البال والضمير.
لم أجد مفراً من العودة إلى الشرطيين الذين ذهبت إليهما أول مرة، ولكن ما جعلني أنتظر هو ظهورأستاذي في الصحافة، المحاضر في عدة جامعات بما فيهم الجامعة التي أدرس فيها، والصحافي في إحدى الصحف المصرية الشهيرة، فبعد وصولي إليه مهرولاً قال ليّ بحدة – على عكس عادته- بعدما صافحته وقصصت عليه ماحدث:( نعمل إيه بس أحنا في دولة ما بتتعملش بإنسانية مع الناس اللي زي ديه)، ثم أعطاني رقم هيئة الإسعاف مع تأكيده أنهم – في الغالب- لن يأتون لأن مثل هذا الموقف حدث معه مسبقاً، وذلك بعدما أتصل بهم، وتخلفوا عن إسعاف بني آدم كان مسجي على رصيف آخر من شوارع الإسكندرية في ظروف تضاهي الظروف التي تحيط بالرجل العجوز، حيث أن حالته الكرب كانت لاتختلف كثيراًعن حالة العجوز الذي لاحول له ولاقوة (إلا بالله بالطبع).
عندما ظللت واقفاً مطرقاً أتدبر في نوع المساعدة التي من الممكن أن أقدمها إلى الرجل، وجدت أستاذي في الصحافة يناديني لكي ينصحني بأن ألتقط للعجوز صورة خلسة، وأرسلها له عبر موقع التواصل الإجتماعي، وهو سيقوم بإرسالها لمسؤولين في المحافظة لعل أحدهم يقوم بمد يد العون إليه إذا لم يكن لأجل كونه بني آدم فلأجل المنظر الحضاري للطريق العام، وهذا ماحدث بالفعل، فبينما كنت أحوم حول الرجل لكي ألتقط له صورة – دون أن يلاحظني أحد- بالكاميرا الخاصة بهاتفي بناءاً على نصيحة أستاذي في الصحافة، كانت هناك فتاة يبدو من هيئتها أنها زميلة في الجامعة يتكأعليها الرجل وهو يتبول على الرصيف في وقت كان جميع الواقفين فاغرين أفواههم ناظرين إلى الرجل نظرة شفقة ممتزجة بالإشمئزاز، فأنبهرت بموقفها النبيل مما جعلني أهرول – بعد تردد- ورائها بعد تركها الرجل لكي أثني على إنسانيتها ونبلها وأساريري كانت منفرجة، فردت عليّ وعيناها مغرورقتان بالدموع:( أنت أهبل يا أستاذ في حد يشوف راجل في الوضع ده ومايحاولش يساعده)، فأومأت إليها إيماء برأسي مؤكداً على كلامها، وذلك قبل أن أعود أدراجي (وقفايا بيقمر عيش).
نداء؛ رجاء إغاثة المتشردين إن لم يكن لكونهم بني آدمين لهم الحق في حياة آدمية، فلأجل المنظر الحضاري الكاذب الزائف الذي تحاولون رسمه.